تحدي الرقابة والدفاع عن الحريةتعليق علي الموضوع إرسال لصديق طباعة الصفحة إسماعيل سراج الدين
بقلم: إسماعيل سراج الدين*تمثل حرية التعبير قيمة كبيرة لا يمكن أن نعيش بدونها على هذا الكوكب، ونتحدث مئات اللغات ونحتفظ بنطاق عريض من الآراء السياسية ونُظهِر منظومة هائلة من السلوكيات الاجتماعية والخصائص الثقافية.
ويحتاج تنوعنا الثقافي- إذا كان له أن يعايش التفاعل المستمر بين الشعوب- أن يصبح معه التسامح خصلة فطرية فينا، بل أكثر من ذلك يجب أن يتعدى مجرد قبول مبدأ حرية التعبير، إلى الالتزام بالدفاع عن هذا الحق لكل من نختلف معهم في الرأي. فإن الآراء الهجومية والمذمومة، هي تحديدًا التي تتطلب الحماية باسم حرية التعبير. فبالتأكيد لا يتطلب الخطاب التقليدي السائد حمايةً، لأنه مقبول للأغلبية.
أضحت حرية التعبير مكسبا دوليا هاما لم نكن نحظى به من قبل، فحتى في العصر الذهبي لليونان القديم، أُعدم سقراط، وكانت جمهورية أفلاطون بمثابة كابوس أورويلي (نسبة إلى جورج أورويل).
كما كانت الألفيات القليلة الماضية صراعًا طويلاً للاعتراف بحقوق الإنسان، ولتوسيع نطاق حرية الاختيار والفعل.. وكلها لم تكن لتتاح بدون حرية التعبير، والتي حصلنا عليها بعد سنوات طويلة، وتكبدنا من أجلها الكثير، وسنظل ندافع عنها مرارًا وتكرارًا، في كل الأزمنة، وكل الامكنة، ضد الغارات التي تشنها ضدها قوى القمع المجتمعي.
إننا نثمّن حرية التعبير فوق كل الحريات الأخرى، لأنها أساس تحقيق الذات؛ فقد نص الاتحاد الأميركي للحريات المدنية (ءجص) على ما يلي: «إن حق الفرد في التعبير عن أفكاره وتوصيلها بحرية للغير، إنما يؤكد على كرامة كل فرد في المجتمع وقيمته، ويتيح لكل فرد أن يحقق كامل إمكاناته البشرية. لذا، فإن حرية التعبير هي هدف في حد ذاتها، وعليه فإنها تستحق جل حماية المجتمع».
إنه دون حرية التعبير، لا يمكن البحث عن الحقيقة، ولن يفيد اكتشاف الحقيقة، ولا يمكن تحقيق أي تقدم. وبدون حرية التساؤل والتعبير، لا يمكن تحقيق تقدم علمي.
إن الحرية تكمن- مثلها مثل الخيال والشجاعة- في البحث عن الحقيقة والحصول على المعرفة. وتاريخ العلوم مليء بالقمع على المستوى الرسمي، من هيباتيا إلى جاليليو. بل إنه إلى يومنا هذا هناك من يقيدون تدريس نظرية التطور، ويرفضون نتائج أبحاث علم الوراثة.
تعد حرية التعبير ضرورة لأي نظام سليم للحكم الذاتي. فإذا كان للناس أن يأخذوا قراراتهم وأن ينتخبوا حكوماتهم، ويوقفوا أي تفريط ويقتلعوا جذور الفساد، يجب أن يكونوا ملمِّين بمجريات الأمور، وأن تكون لهم حرية الاطلاع على مختلف الأفكار والآراء، حيث يشكل الجهل الجماهيري تربة خصبة لنمو التزمت والتعصب الأعمى، والذي يؤدي بدوره إلى الظلم والاستبداد.
ويؤكد جون ستيوارت ميل، أنه لا يمكن إصدار أي حكم مستنير دون دراسة كل الحقائق والأفكار من مختلف المصادر، وكذلك مقارنة النتائج التي يتم التوصل إليها مع الأفكار المعارضة.
نحن بحاجة إلى حرية التعبير، لأننا لا نعرف متى يغدو رأي الأقلية- والذي يبدو في أحيان كثيرة مسيئا أو مضر اجتماعيا- هو رأي الأغلبية.. فالكثير من القضايا التي نراها اليوم أموراً مسلمًّا بها، مثل استقلال المستعمرات، والقضاء على العبودية، وحق الانتخاب العام، وحقوق الإنسان الأساسية، وحقوق المرأة دون ذكر حقوق الطفل، كانت تعتبر في يوم ما أفكارًا محرضة على الفتنة.
ينبغي عدم وضع حدود على حرية التعبير، باستثناء ما تقضي به القوانين الموضوعة ضد القذف والتشهير. من الأفضل التفكير في القضايا المتعلقة بقوانين حرية التعبير كخطوط عريضة لتقويم السلوك، بدلاً من تصرفات يجرمها القانون.
يعتبر الرفض المجتمعي للخطاب المتطرف والسلوك غير الحضاري، وسيلة أنجع من العقوبات القانونية. ولم يتمكن أحد إلى الآن من تعريف حدود الخطاب المقبول بطريقة دقيقة، من الناحية القانونية وبأسلوب يمكن الدفاع عنه.
الآن، كيف يمكن للمجتمعات أن تنشر الوعي حول مخاطر الخطاب المروج للكراهية وتخلق نوعًا من الإجماع الاجتماعي؛ الذي من شأنه أن يقضي على إمكانية وصول مثل هذا الخطاب إلى مرحلة التحريض، وصولاً في النهاية إلى إيذاء الأقليات المستهدفة؟
أعتقد أنه يمكن تحقيق ذلك من خلال التركيز على كل من حقوق الإنسان وأهمية حرية التعبير، كالحرية الأساسية للفرد. وخير مثال على ذلك دور الاتحاد الأميركي للحريات المدنية في الدفاع عن حق الحزب النازي الأميركي، في تنظيم المسيرات السلمية في القضية الشهيرة في سكوكي بولاية إيلينوي في عامي 1978 / 1979. وأظهرت هذه القضية الشهيرة اليهود وهم يدافعون عن حق النازيين في حرية التعبير (والاجتماع)، وبذلك انتهجوا مبادئ فولتير.
وفي بادئ الأمر، خسر الاتحاد الأميركي للحريات المدنية الكثير من أعضائه، ولكن في النهاية ظهر بشكل أقوى لثباته على مبدئه.
نواجه اليوم في كثير من أجزاء العالمين العربي والإسلامي، مشكلة ظهور لغة من التطرف تحرِّض الناس على ارتكاب أعمال عنف. فهل ينبغي أن نحمي هذا الخطاب؟ الأفكار يجب أن تُهزَم بالأفكار، والمكان الذي تفنَّد فيه هذه الأفكار هو الساحات الفكرية، وليس قاعات المحاكم. فيجب أن توضع القيود القانونية على الأفعال، وعلى التحريض على الأفعال.
والآن إلى أي مدى نمضي في منع التحريض على ارتكاب أعمال العنف؟ وهنا يتضح المنحدر الذي يقودنا إلى فرض رقابة على الأفكار التي تعتبر خطيرةً ومثيرةً للفتنة.
إن القوانين التي تمنع النطق بفكرة، لا تعتبر خطوةً على طريق الخطر فحسب، ولكنها أيضاً مضرة. وإذا أخذنا مثالاً على ذلك الحظر المفروض على إنكار المحرقة، وهو رد فعل مفهوم للفظائع النازية في أوروبا، فهذا الحظر يقدم لناكري حدوث المحرقة سببًا لتأكيد مزاعمهم، فيقولون: «احتاجوا لسن التشريعات ليمنعونا من الكلام، لأنهم لم ينجحوا في الرد علينا».
بالأفكار فقط تُهزم الأفكار. يقول فيكتور هوجو في كلمة له، إنه يمكن هزيمة الجيوش الغازية، ولكن لا يمكن هزيمة فكرة آن أوانها! فإن المجتمع يستفيد من وجود «سوق» للأفكار.
* نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية