محمود حمدي زقزوق*
منذ بداية الحديث ف
ي سويسرا عن مبادرة منع بناء المآذن كان السفير السويسري السابق في القاهرة في زياراته المتكررة لوزارة الأوقاف حريصا كل الحرص علي توضيح موقف حكومته وموقف البرلمان الرافضين لهذه المبادرة التي أطلقها حزب الشعب اليميني المتطرف. ومنذ أسبوعين زارني السفير السويسري الجديد مؤكدا هذه المواقف، ومشيرا الي أن الحكومة السويسرية دعت المواطنين الي رفض هذه المبادرة عند التصويت عليها في الاستفتاء الشعبي في29 نوفمبر الذي تقرر اجراؤه بعد حصول حزب الشعب علي توقيع اكثر من مائة ألف مواطن- كما ينص الدستور- وقد تم اجراء الاستفتاء وأظهرت نتيجة التصويت تأييد57% من الناخبين لمنع بناء المآذن، وبناء علي ذلك أصبح التعديل الدستوري أمرا مقررا لامفر منه.
وقبل اجراء الاستفتاء لم تكن المناقشات تتركز حول بناء المآذن فقط، وانما شملت كل مايتعلق بالمسلمين هناك، ومن بين ماقيل دعما لهذه المبادرة: انها تهدف الي منع هيمنة المد الاسلامي علي سويسرا، ومنع المطالبة بتطبيق الشريعة الاسلامية فيها، ومن بين اللافتات التي رفعت في هذا الصدد صورة امرأة منتقبة وخلفها عدد من المآذن.
وعندما انطلقت الدعوة الي حظر بناء المآذن سألت بعض المسئولين السويسريين عن اوضاع المسلمين في سويسرا- الذين يبلغ عددهم أربعمائة ألف مسلم معظمهم من بلاد البلقان- وعما اذا كان قد صدر منهم تصرفات تعكر صفو علاقتهم بالمجتمع السويسري؟ وكانت الاجابة بالنفي، فليس من بينهم أصولي أو متعصب أو ارهابي، وهم يتعايشون في سلام مع السويسريين.
والسؤال الملح اذن هو: لماذا كانت هذه الخطوة غير المبررة التي قد تؤدي الي زرع بذور الكراهية والعداوة بين المسلمين والمجتمع السويسري؟ ان التخوف من المطالبة بتطبيق الشريعة الاسلامية في سويسرا أو في أوروبا بصفة عامة أمر بعيد الاحتمال ويدخل في عداد الأوهام.
وقد يقال: إن منع بناء المآذن لن يشكل حجرا علي المسلمين في سويسرا من أداء شعائرهم الدينية أو بناء مساجد جديدة بدون مآذن (يوجد حاليا في سويسرا نحو مائتي مسجد وأربع مآذن متواضعة) ولكن المآذن التي يعلوها الهلال تعد رمزا للاسلام مثلما ترمز أبراج الكنائس التي يعلوها الصليب للمسيحية، وحرمان المسلمين من هذا الرمز يدل علي تمييز عنصري وتضييق ديني، ولست أدري كيف يتفق التعديل الدستوري بمنع بناء المآذن مع ما ينص عليه الدستور هناك من حرية العقيدة والمساواة، فهذه المساواة في حق المسلمين ستكون من غير شك مساواة منقوصة.
ونعتقد أن الاجراء السويسري وغيره من الاجراءات التي يمكن أن تتخذ ضد المسلمين في بلاد أوروبية أخري ينطلق أساسا من تأثير الصورة السلبية التي انطبعت في أذهان الأوروبيين عن الاسلام والمسلمين، وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001، وهي صورة خاطئة وظالمة من غير شك، فالاسلام علي مدي تاريخه الطويل لم يعرف العنف والارهاب والدموية علي النحو الذي عرفه العالم في الحربين العالميتين في القرن الماضي أو في الحروب الصليبية التي خاضتها أوروبا ضد المسلمين أو الغزوات الاستعمارية التي طالت معظم البلاد الاسلامية.
وقد بات أمرا واضحا أن الأوروبيين لايخفون قلقهم وتخوفهم من المد الاسلامي في بلادهم، ويذهب الخيال بالكثير منهم الي حد التخوف من أن تصبح أوروبا قارة اسلامية.
والكتاب الذي ألفه فيليب جينكينز بعنوان (قارة الرب ـ المسيحية والاسلام وأزمة الدين في أوروبا ـ أكسفورد2007) يعبر عن هذه المخاوف، وإن كان المؤلف نفسه يرفض ذلك ويبين أن هيمنة الاسلام علي أوروبا من الأمور المبالغ فيها والمبنية علي الخرافات السياسية القديمة.
ان مايخشاه المسلمون الآن في سويسرا بصفة خاصة وفي أوروبا بصفة عامة هو أن يكون حظر بناء المآذن في سويسرا بمثابة بداية لاجراءات اخري للتضييق علي المسلمين، وليس بمستبعد أن تحذو الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا ـ والتي تنامي نفوذها في عدد من البلاد الأوروبية ـ حذو سويسر ا في تضييق الخناق علي المسلمين وجعل حياتهم في أوروبا أمرا بالغ الصعوبة ( يبلغ عدد المسلمين في كل دول أوروبا ـ طبقا لما أورده جينكينز ـ23,8 مليون بنسبة4,6% من عدد السكان).
ان علي المسلمين في أوروبا ـ في ظل الظروف المستجدة ـ أن يستخلصوا منها الدروس, وأن يفكروا في أوضاعهم وماينبغي عليهم أن يفعلوه للحفاظ علي حقوقهم المشروعة بهدوء وبمنطق العقل وفي اطار القانون، بعيدا عن الصخب والضجيج، وأن يثبتوا للأوروبيين أنهم مواطنون حريصون علي مصلحة أوطانهم الجديدة، وأنهم بعيدون كل البعد عن كل شكل من أشكال التعصب أو التطرف أو رفض الآخر، وأن يتخذوا خطوات جريئة للاندماج في مجتمعاتهم والمشاركة بفاعلية في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وألا يعزلوا أنفسهم في تجمعات مغلقة، فهذا ليس في صالحهم ولافي صالح المجتمعات التي يعيشون فيها.
وقبل كل ذلك وبعده، فان علي المسلمين في أوروبا أن يبذلوا جهودا مضاعفة من أجل القضاء علي الأحكام المسبقة والأفكار الخاطئة والمفاهيم المغلوطة لدي الأوروبيين عن الاسلام والمسلمين، وأن يظهروا لهم الصورة المشرقة لهذا الدين الذي هو دين الاسلام والرحمة والعدل والمساواة بين كل الناس في كل زمان ومكان.
* نقلاً عن جريدة "الأهرام" المصرية